التحيز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي

التحيز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي: هل تفرض وسائل التواصل قيودًا إقصائية وغير عادلة على المحتوى الفلسطيني؟

تلعب خوارزميات الذكاء الاصطناعي اليوم دورًا رئيسيًا بظهور معضلات أخلاقية جدية تتجاوز البعد التقني البحت إلى تهديد حق الشعوب في التعبير السلمي عن قضاياها، وذلك من خلال سلوكها المنحاز وغير العادل في الفضاء الرقمي.

وتبرز الانحرافات الخطيرة في هذه الخوارزميات في منصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص، حيث تتبلور ساحات النقاش العام العالمي بين الأفراد، وتتشكل الآراء والمواقف، وتكون فيها الخوارزميات الذكية بمثابة المُشرِّع والقاضي والمنفذ. فهذه الخوارزميات هي من تحدد ما يراه المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي، من ترتيب المنشورات إلى حذف المحتوى، وهي التي تقرر ما يصل إليهم وما يُحجب عنهم. ولكنها كذلك تحمل انحيازات خطيرة ومتجذرة في طريقة تصميمها وتدريبها، ولذلك، فهي تعكس القيم غير العادلة والتحيزات البشرية التي غُذيت بها والتي تُفترض فيها الحيادية.

وتتجلى هذه الإشكالية بوضوح صارخ في التعامل مع المحتوى المتعلق بالقضية الفلسطينية، وخاصة الأحداث الجارية في غزة، حيث يشتكي الكثير من المستخدمين من حذف منشوراتهم أو تقليل وصولها بشكل متعمد، وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات والاستفهامات حول مدى نزاهة هذه الخوارزميات في نقل صورة متوازنة وصحيحة عن الواقع.

الآليات العلمية للتحيز في منظومات الذكاء الاصطناعي

خوارزميات الذكاء الاصطناعي

لفهم جذور هذا التحيز، يجب أن ندرك بنية هذه الخوارزميات وطرق عملها. حيث تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على أنظمة ذكاء اصطناعي معقدة تقوم بثلاث مهام رئيسية: الرصد، والتصنيف، واتخاذ القرار. إلا أن هذه المهام تتأثر بعدة عوامل رئيسية تُشكِّل مصادر التحيز:

  • قواعد الإشراف على المحتوى: الكلمات المُقيِّدة والتحليل السياقي القاصر

تُصمم خوارزميات وفق قواعد محددة تعكس رؤى مالكي منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وعند النظر لهذه القواعد نجدها غالباً ما تستند إلى تعريف وفهم الغرب للمصطلحات الشائكة مثل “العنف” و”الإرهاب” و”خطاب الكراهية”. ويكمن الخلل هنا في عجز هذه الأنظمة عن فهم السرديات الأخرى والاغفال عن السياقات المختلفة والمتفردة والمتنوعة للشعوب، واعتماد تعريفات محددة ومقولبة بالمنظور الغربي للمفاهيم.  ولذلك، فإننا نلاحظ عادة أن المحتوى الذي يعرض صورًا أو مقاطع فيديو من غزة يُحذف بشكل أسرع من محتوى مشابه في سياقات أخرى. فالصورة التي توثق معاناة إنسانية في غزة قد تُصنف كـ”محتوى عنيف” يستوجب الحذف، بينما تُعرض صور مماثلة من صراعات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا باعتبارها “تغطية إخبارية” تستحق الانتشار. وبذلك، تفشل الخوارزميات أحيانًا في التمييز بين خطاب التحريض الفعلي والتغطية الصحفية أو المنشورات التضامنية. 

وتستند خوارزميات التصفية على قوائم تحدد الكلمات المفتاحية والمصطلحات “المشبوهة”. وفي السياق الفلسطيني، نجد أن مصطلحات أصيلة في الثقافة العربية والإسلامية مثل “شهيد” و”مقاومة” و”جهاد”، أو حتى أسماء مناطق فلسطينية معينة، قد أُدرجت ضمن قوائم المراقبة المشددة. وتتفاقم الإشكالية عندما تفشل الخوارزميات في فهم السياق الثقافي والتاريخي لهذه المصطلحات، فتُعامل على أنها تحريض، بينما هي في حقيقتها جزء من المنظومة اللغوية والفكرية لشعوب المنطقة. ويؤدي هذا القصور المعرفي إلى إقصاء ممنهج للمحتوى الفلسطيني، حتى لو كان المنشور لا يتضمن أي انتهاك حقيقي.

  •  التحيز المتأصل في بيانات التدريب

تتعلم نماذج الذكاء الاصطناعي من عدد هائل من النصوص والصور، ولكن في الكثير من الأحيان، تعكس هذه البيانات هيمنة الرواية الغربية لكثير من الصراعات في العالم، وتكون غير محايدة أصلًا. ولذلك، فمن الطبيعي أن تميل الخوارزميات الناتجة إلى تبني وجهة النظر ذاتها. ويُطلق على هذه الظاهرة: “التحيز الإحصائي المنهجي” (Systematic Statistical Bias)، حيث تُكرِّس الخوارزميات معايير سياسة معينة و انحيازات موجودة مسبقاً ، بل وتضخم هذه الانحيازات، مما يخلق حلقة مفرغة من التحيز المُعزَّز آلياً.

  • غياب التوازن بين الآلة والإنسان في عملية الإشراف، والاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي 

تعتمد الشركات بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي لمراقبة المنشورات. وهذا الاعتماد المفرط يؤدي بالنهاية إلى قرارات خاطئة بسبب عدم فهم الخوارزمية للسياق الاجتماعي والتاريخي والجغرافي خاصة عندما يتعلق الموضوع بقضايا سياسية وإنسانية معقدة ومتشابكة. ويلعب عامل قلة المحتوى العربي وندرة المراجعين للمحتوى العربي من المتخصصين في الشأن العربي والفلسطيني دورًا كبيرًا في مشكلة تأخر معالجة الشكاوى المتعلقة بالحذف غير المبرر للمحتوى الفلسطيني.

أمثلة على التحيز ضد المحتوى الفلسطيني

خوارزميات الذكاء الاصطناعي

لتوضيح الصورة بشكل أدق، نستعرض هنا بعض النماذج التي تُظهر التحيز ضد المحتوى الفلسطيني عبر المنصات الرقمية:

  • حذف حسابات إعلامية وتوثيقية معتمدة

وثقت منظمات حقوق رقمية عالمية حذف أكثر من 500 حساب لصحفيين وناشطين ومؤسسات إعلامية فلسطينية أو دولية متضامنة مع القضية الفلسطينية خلال فترات التصعيد الإسرائيلي الأخيرة في غزة بحجة “مخالفة السياسات”. وكانت العديد من هذه الحسابات موثقة وتنتمي لصحفيين معتمدين دولياً ومؤسسات إعلامية مسجلة. وفي المقابل، لم يتم اتخاذ إجراءات مماثلة ضد حسابات تحرض على العنف ضد الفلسطينيين. ويضعف هذا الانتهاك الخطير فرضية أن الحذف كان بسبب “انتهاك المعايير المهنية”. 

  • التعتيم الرقمي غير المرئي (Shadow Banning)

تمت ملاحظة أن المنشورات الني تحمل وسوم (هاشتاغات) متعلقة بفلسطين أصبحت تتعرض لانخفاض ملموس في معدل الوصول بنسبة تتراوح بين 50-70% مقارنةً بمنشورات مماثلة حول قضايا أخرى. ويصعب اثبات هذا النمط من “الحجب الناعم” من قبل المستخدم العادي، لكنه يؤدي تدريجياً إلى تغييب الرواية الفلسطينية من الفضاء الرقمي.

  • إزالة انتقائية للمحتوى التوثيقي

توثق صور ومقاطع فيديو من غزة الواقع الإنساني المأساوي، لكنها تُحذف بحجة “احتوائها على مشاهد صادمة”، بينما تُنشر صور مماثلة من سياقات أخرى باعتبارها “ذات قيمة إخبارية”. وكما نرى، فإن هذه الازدواجية و التناقض في المعايير يشكك في مدى نزاهة ومصداقية هذه الأنظمة الذكية.

نحو منظومة ذكاء اصطناعي عادلة: الحلول العلمية والإنسانية

خوارزميات الذكاء الاصطناعي

كيف يمكن معالجة هذا التحيز والانتهاك الرقمي الظالم لحقوق المظلومين والمهمشين في هذا العالم ممن لا صوت لهم، أو ممن يتم اسكات صوتهم عنوة؟ لا بد من المنظومات الحقوقية والإنسانية والتكنولوجيا في العالم العربي وفي كل مكان ممن يؤمنون بقيم العدالة والإنسانية لكل فرد على هذه الأرض من التصدي لمحاولة التعتيم الرقمي والتحيز المستمر و التهميش المتعمد لمآسي الإنسان الفلسطيني في غزة، و كذلك تسليط الضوء على جرائم الاحتلال والانتهاكات المستمرة التي يرتكبها تحت غطاء دولي مستمر. 

لا بد من العمل على صياغة خطوات عملية لمواجهة تحديات التحيز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي بمنهجية علمية وإنسانية متكاملة تعتمد المبادئ التالية:

  1. تطوير إطار أخلاقي عالمي للذكاء الاصطناعي

يجب على خبراء حقوق الإنسان والصحفيين والمنظمات الإنسانية و الحقوقية والتقنية صياغة ميثاق أخلاقي عالمي يحكم عمل خوارزميات الإشراف على المحتوى، بحيث يضمن تمثيلاً عادلاً وموضوعيًا لمختلف الروايات والسرديات لضمان أن قرارات الذكاء الاصطناعي لا تخدم أجندات سياسية معينة.

  1.  تعزيز التنوع المعرفي في بيانات التدريب وإصلاح أنظمة تدريب الذكاء الاصطناعي

يجب إغناء قواعد بيانات تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي بمحتوى متنوع لغوياً وثقافياً، مع التركيز على إدراج مصادر عربية وفلسطينية أصيلة تتيح للخوارزميات فهماً أعمق للسياق التاريخي والجغرافي والثقافي والمحلي لتحقيق توازن حقيقي. كما يُوصى بتطوير “مجموعات بيانات تصحيحية” (Corrective Datasets) مصممة خصيصاً لمعالجة التحيزات المعروفة ضد روايات معينة. ولتسليط الضوء على مظلومية الشعب الفلسطيني. 

  1. توازن أفضل بين الرقابة الآلية والبشرية

لا بد من توظيف فرق “بشرية” متنوعة ثقافياً ولغوياً للمراجعة لإعادة النظر في النموذج الحالي للإشراف على المحتوى، خصوصاً للمحتوى المتعلق بقضايا حساسة كمظلومية أهل غزة، والانتهاكات الإسرائيلية، كما يجب تفعيل آليات استئناف سريعة وفعالة للقرارات الآلية المتعلقة بالمحتوى المحذوف.

  1.  الشفافية وحق المعرفة

من أكثر المشكلات العالقة في خوارزميات التعلم الآلي اليوم هي مشكلة الصندوق الأسود، حيث لا يقدم نموذج الذكاء الاصطناعي تفسيرا أو توضيحَا لأغلب قرارته. وفي هذا الصدد، لا بد من تكثيف البحث على إيجاد آليات للوصول لذكاء اصطناعي مفسر ، Explainable AI، للوصول لإيضاحات حول أسباب سلوكه تجاه نوع معين من المحتوى. عندها يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي تفسير أسباب حذف المحتوى أو تقييده، كما يمكن لها أيضًا أن تنشر بيانات إحصائية دورية حول المحتوى المحذوف مصنفاً حسب المواضيع والمناطق الجغرافية، مما يتيح للباحثين والمجتمع المدني مراقبة أنماط التحيز المحتملة.

ختامًا

إن التحيز في خوارزميات الذكاء الاصطناعي لا يعتبر مجرد مشكلة تقنية فحسب، بل يمتد ليكون قضية خطيرة تؤثر بشكل مباشر على حرية التعبير والعدالة الإعلامية في العالم. ففي عصر يتشكل فيه الوعي الجمعي عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، تصبح مسألة نزاهة هذه الأنظمة قضية محورية ترتبط بحق الشعوب في التعبير عن قضاياها وروايتها ورؤيتها وسرديتها للتاريخ والجغرافيا والهوية الثقافية وحق الحياة وحق الدفاع عن الأرض. وبالنسية للقضية الفلسطينية، فالتحيز ضد المحتوى الفلسطيني ليس مجرد خلل تقني يمكن إصلاحه بتحديث برمجي، بل هو انعكاس لمنظومة قيم مشوهة ومنحازة ومتناقضة و مزدوجة المعايير تحتاج إلى مراجعة شاملة.

نحن أمام معركة معرفية جديدة تدور رحاها في فضاء الخوارزميات، وهي معركة رقمية، ولكنها لا تقل أهمية عن معارك الدفاع عن الحقوق الأساسية في العالم الواقعي. فكلما تقدمنا في تطوير الذكاء الاصطناعي، ازدادت الحاجة للتأكد من أن هذه التكنولوجيا لا تستغل بطريقة سيئة، بل تخدم قيم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لجميع الشعوب دون تمييز.

إن طموحنا يجب أن يتجاوز تطوير ذكاء اصطناعي متقدم تقنياً، نحو ذكاء اصطناعي إنساني وعادل، ذكاء يعكس تنوع الناس وثراء ثقافاتهم، ويحترم حق كل شعب في سرد مظلوميته و قصة نضاله وسعيه نحو العدالة والحرية والحياة الكريمة.

د. تهاني الخطيب
قسم أنظمة المعلومات الحاسوبية – الجامعة الأردنية

مقالات مشابهة